الشيخ ياسين وحماس- إرث الثنائيات، طوفان الأقصى، ومستقبل الإسلاميين

المؤلف: إبراهيم الدويري11.09.2025
الشيخ ياسين وحماس- إرث الثنائيات، طوفان الأقصى، ومستقبل الإسلاميين

لقد كانت تجربة الشيخ أحمد ياسين بمثابة منعطف حاسم وحدث جلل في سجل الحركات الإسلامية، وفي مسيرة القضية الفلسطينية التي عايش تفاصيلها الدقيقة، وصقلته الأحداث الجسام من نكبات ومآسٍ وتهجير قسري وأسر واستشهاد. لقد كان له دور محوري في رسم تحولاتها الجوهرية، بدءًا من إشعال فتيل انتفاضتين شعبيتين في وجه الاحتلال الغاشم، وصولًا إلى تأسيسه حركة باتت قياداتها السياسية والعسكرية تتطلع إلى فجر التحرير الشامل بفارغ الصبر، وتؤمن بأن الصلاة في رحاب المسجد الأقصى، وقد تحرر من براثن الاحتلال، باتت على مرمى حجر، وقريبة المنال بحلول عام 2027.

على الرغم من مرور ستة أشهر على الحرب الشرسة التي تشن على غزة والشعب الفلسطيني، لم تغفل حركة حماس عن استحضار ذكرى مؤسسها في الذكرى السنوية العشرين لاستشهاده، والتي تصادف يوم 22 مارس/آذار 2004. وقد جاء في بيان الذكرى أن "طوفان الأقصى" وما يحمله من رمزية وعنفوان، يمثل "ثمرة من ثمرات الإعداد والجهاد الذي قام به الشيخ ياسين".

كما أكد البيان أن الشعب الفلسطيني، وخاصة سكان غزة، "يستلهمون من سيرته ومسيرته الجهادية، أسس الصمود والثبات، والدفاع المستميت عن الأرض، والحفاظ على الثوابت الراسخة، والذود عن المقدسات الإسلامية، واستراتيجية بناء القوة وتراكمها، ووسائل انتزاع الحقوق المشروعة والحفاظ على المكتسبات، وإدارة المعركة ببسالة ضد العدو الصهيوني والإثخان في جيشه، والتصدي لمخططاته العدوانية، وتحقيق النصر المؤزر عليه".

ثنائيات التحدي

إن استذكار الشيخ ياسين والإشادة بتجربته في هذه المرحلة ليس حكرًا على حركة حماس وحدها، بل ثمة مؤشرات قوية تدل على أن عددًا من الحركات والتيارات الإسلامية السُنية الأخرى قد بدأت تستلهم فكر الشيخ ياسين في هذه الأيام، وتستحضر نجاح نموذج حماس في تحقيق التوازن بين عدة ثنائيات، لطالما كان التوفيق بينها يشكل تحديًا كبيرًا لحركات الوعي والإصلاح في العالم الإسلامي.

ومن بين هذه الثنائيات: الجمع بين كاريزما المؤسس وترسيخ المؤسسية في التنظيم والحركة، والموازنة بين العمق التزكوي والتربوي والفاعلية الميدانية، والقدرة على المواءمة بين حكمة مراعاة إكراهات الواقع الدولي وشجاعة الخروج عن إطاره المنحاز عند انسداد الأفق، وأخيرًا التوفيق بين الانضباط التنظيمي وبث روح التدين الجماهيري الواعي، بالإضافة إلى الجمع بين امتلاك القوة والمحافظة على انضباط استخدامها.

لقد برزت هذه الثنائيات الدقيقة بقوة أمام أبناء الحركات الإسلامية، حين فاجأهم "طوفان الأقصى" بما يمثله من إعداد واستعداد وإقدام وفداء، بينما كانوا غارقين في دهاليز المؤامرات التي تحيكها الثورات المضادة، وفي خضم الدعايات المغرضة التي كادت تقنع الإسلاميين بأن الركون إلى الدعة والرضا بالحياة الدنيا أمر لا مفر منه، وأن الواقع المظلم الذي أرادت اتفاقيات أبراهام، بما تحمله من أبعاد صليبية وصهيونية، فرضه في المنطقة، هو واقع لا سبيل إلى تغييره.

لم يتنبه الإسلاميون لخطورة هذه الغفلة وتأثيرها المعيق إلا بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على الحرب الشرسة التي تشن على غزة، وهم يشاهدون آلة القتل الإسرائيلية وهي تفتك بالأبرياء، وتدمر المساجد والجامعات والمستشفيات، دون أن يتمكنوا من إحداث ضغط جماهيري حقيقي يقود الشعوب ويحرج الأنظمة، ويوقف العدوان، بينما ظلت شوارع العواصم الغربية تعج بالمتعاطفين مع الفلسطينيين، والمحتجين على الهمجية الإسرائيلية.

في هذا الواقع المرير الذي ارتفع فيه أهل غزة بصمودهم إلى عنان السماء، بينما آثر غيرهم الركون إلى الأرض، استذكرت الجموع الإسلامية شيخ الشهداء أحمد ياسين، ونظرت إلى تجربة حركة حماس بعين الإعجاب والتقدير، وتزايدت التساؤلات حول جدوى ما كانت تقوم به الحركات الإسلامية في العقود الماضية من أعمال دعوية وسياسية واجتماعية، مع التأكيد على أن المحن المتلاحقة التي مرت بالإسلاميين والحروب التي شنت عليهم لا تبرر هذا الغياب، ولا تلك السلبية، فكل المحن والحروب تبدو ضئيلة أمام محن غزة والحروب التي تشن عليها، فما الذي ميز ياسين وحماس؟

أستاذ الفرسان

لقد قام الشيخ أحمد ياسين بدور تجديدي في مسيرة الجهاد الإسلامي المستنير، وأحيا روح التدين في فلسطين، وأعاد بناء الفكر الإخواني، كما تركه الإمام الشهيد حسن البنا قبل أن تعتريه شوائب الإكراهات والضغوط.

ويرى يحيى السنوار أن أبرز تحول أحدثه الشيخ أحمد ياسين في مسار القضية الفلسطينية، هو غرس روح التحدي ومواجهة الخوف من المحتل، والاستعداد للمواجهة الشاملة مع الصهاينة في جميع الأراضي المحتلة.

يرصد يحيى السنوار في سيرته الذاتية الروائية: "الشوك والقرنفل" مظاهر التغلب على الخوف مع انطلاق الانتفاضة الأولى، فيشير إلى أنه مع تصاعد حدة المظاهرات وتعميم الاشتباكات في كل أرجاء غزة، استيقظ شاب على صوت والده المسن وهو يوقظه صباحًا للمشاركة في المظاهرات، وتساءل الشاب في نفسه قائلًا: "من هذا الذي يوقظني للمشاركة في المظاهرات والصدامات… أبي؟ أبي الذي كان منذ أيام يرتعد خوفًا حين يسمع عن وقوع أحداث ضد الاحتلال، ويغلق علينا الباب ويمنعنا من الخروج، ما الذي تغير في هذا الكون حتى يحدث هذا التحول الجذري؟". (الشوك والقرنفل ص 198).

ذكر السنوار في ترجمته للأسير القسامي المحرر "أشرف البعلوجي" أن الروح التي سرت في غزة وفلسطين مع الانتفاضة هي ذات الروح التي بثها فيهم الشيخ أحمد ياسين، فهو كما يصفه السنوار: "الروح التي أفاضها الله علينا، فجاءت حماسًا يشعل النفوس لينقلها من ضحية للمشروع الذي يهدف إلى صناعة مجموعات من المرتزقة التي يسعى اليهود من خلالها إلى السيطرة على المنطقة والتحكم في العالم، إلى طلائع لحرب التحرير الشامل، ومقدمة لفرسان الحماس، ولمغاوير المجد، ولرواد المجاهدين، صنّاع الحياة، وعشاق الشهادة". (أشرف البعلوجي ص 3).

فالسنوار وجيله يعتبرون الشيخ ياسين "بحق ودون منازع رمز صورة الحياة التي دبت في نفوس هؤلاء الشباب، فاندفعوا بالعطاء المتدفق الذي يطارد الموت وينازعه، ويصنع المعجزات، ويسجل المجد بأحرف من نور أو نار، أو قل بأحرف من ألم أو من أمل، أو بأحرف من أحمد ياسين".

يرى السنوار أن الشيخ المقعد صاحب البصيرة النافذة، بتلك الروح التي بثها فيهم، هو "أستاذ الفرسان ومربيهم وقائدهم وقدوتهم ورمزهم ومفجر الفروسية في صدورهم، والبطولة في أفعالهم، والحماس في أرواحهم، والتطلع إلى المجد في أعماقهم، وهو الذي دفعهم بفعله الأسطوري إلى أن يطاردوا الموت وينازعوه". (أشرف البعلوجي ص 3).

هذه الروح القتالية تطورت بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين، وبعد عقدين من الزمن، تحولت إلى فن قتالي متقن يبهر العالم بحسن تخطيطه وتكتيكه، وينتزع إعجاب خريجي الكليات العسكرية المرموقة، ويعزى ذلك إلى تميز المقاومة الفلسطينية في "صناعة الإنسان المقاتل"، ولكن قبل أن تصل المقاومة إلى هذه الصناعة الرائدة، مرت بمراحل صعبة وتحديات جمة، لم تثنها عن خططها التربوية وبرامجها الإعدادية.

حرج الأسئلة

هذا العطاء المتدفق، والشباب المتحمس المتوقد عشقًا للسلاح، والمقاتل الذي يطارد الشهادة ويراود الموت، ويقض مضجع العدو في كل الساحات، لم يصلحه الله بين عشية وضحاها، ولم يبرز إلى الوجود بمحض الصدفة، بل هو نتاج أعوام طويلة من التربية والتأهيل، سبقتها سنوات من النقاشات المستفيضة والمشاورات الملزمة، التي خلصت إلى أن مواجهة العدو بالسلاح تتطلب استعدادًا نفسيًا وروحيًا وبدنيًا، وانكبابًا طويلًا على المصاحف، ومكثًا مطولًا في المساجد، وانطلاقًا منها لـ"صناعة الإنسان المقاتل" الذي أعدته حركة حماس عبر سنوات إعدادها الممتدة لعقود.

لقد سبق تربع حركة المقاومة الإسلامية حماس على عرش المشهد الفلسطيني المقاوم منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، سنوات من الإحراج والتضييق واللوم من قبل الفصائل الفلسطينية الأخرى، وكان هذا الإحراج أشد ما يكون على أعضاء الكتلة الإسلامية المحسوبة على "الإخوان المسلمين" في فلسطين، فالطلاب دائمًا هم الأكثر حيوية وتأثرًا بالأيديولوجيات، والأكثر تفاخرًا بإنجازات أحزابهم ومكاسب جماعاتهم ومناقب فصائلهم.

كان لدى الاتحادات الطلابية في فلسطين في منتصف الثمانينيات سؤال واحد كافٍ لإحراج أعضاء الكتلة الإسلامية، وهو: أين أنتم يا "إخوان مسلمين" من المقاومة المسلحة؟ فكان طلاب الإخوان حينها يتعللون بالإعداد والتربية، ثم اضطرهم الإحراج المتزايد إلى إعداد كتيب بعنوان: "الحقيقة الغائبة"، تحدثوا فيه عن جهاد الإخوان عام 1948، وجهاد الإسلاميين عمومًا في فلسطين منذ بداية قضيتها وحتى الستينيات.

كما أضافوا إلى الكتيب نبذة عن أسرة الجهاد بقيادة الشيخ عبدالله نمر درويش، واعتقال الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من إخوانه عام 1984، كما يوثق الدكتور محمد نهاد الشيخ خليل في كتابه "حركة الإخوان المسلمين في قطاع غزة".

ولأن حقائق الماضي الغائبة لا تسد فراغات الحاضر المشهود، كان أعضاء الكتلة الإسلامية يتجنبون النقاشات الطلابية بشكل عام، ومع الطلاب التابعين لحركة الجهاد الإسلامي بصفة خاصة؛ خوفًا من ترسيخ صورة سلبية عن الانقسام الإسلامي في الوسط الطلابي.

لقد اتخذ قرار الإعداد بعد مناقشات مستفيضة داخل فلسطين وخارجها، حيث سافر الشيخ أحمد ياسين إلى العاصمة الأردنية عمَّان عام 1968 للقاء الدكتور عبدالله بوعزة مندوب إخوان فلسطين في الأردن، واتفقا على البدء بالإعداد وتأجيل العمل المسلح حتى يبلغ التأهيل مداه.

كان الشيخ أحمد ياسين يميل إلى البدء بالعمل العسكري في تلك الفترة المبكرة، ولكنه التزم بقرار الهيئة ونتيجة مشورتها، وعاد إلى غزة وقد شمر عن ساعد الجد في مساجدها، داعيًا ومربيًا يجمع الشباب ويعد العدة.

ومن مظاهر عظمة الشيخ أحمد ياسين القيادية، أنه اندفع لتطبيق قرار الشورى المخالف لرأيه كما لو كان رأيه، وقضى سنوات طويلة من عمره في التربية والإعداد حتى حان الأوان، وانطلق الركب الحمساوي في كر وفر، شهيد يتبعه شهيد، وقائد يخلفه آخر، حتى أطل على العالم فجر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

الإسلاميون والطوفان

لم يكشف "طوفان الأقصى" عن ضعف الأنظمة العربية أمام الأعداء، ولا عن هشاشة المجتمعات العربية والإسلامية التي رزحت تحت نير الاستعمار والاستبداد لعقود طويلة فحسب، بل كشف أيضًا عن تيه الإسلاميين، وحاجتهم الماسة إلى انطلاقة متجددة تصحح المسار، وتقلل من أهمية المظاهر الشكلية المبالغ فيها، وتحصنهم من مخاطر الاختراق الفكري والنفسي، وتتجاوز الخطوط الرمادية في هذا العالم الظالم، وترفع من شأن قيم الإنجاز القائمة على الحقائق التي يجدها المسلمون عند الحاجة.

إن الثنائيات التي نجح الشيخ أحمد ياسين وحركة حماس في تحقيق التوازن بين مقتضياتها، وغيرها من الثنائيات التي قد تخص كل قطر على حدة، حري بالإسلاميين أن يتعاملوا معها بجدية، وأن يتطلعوا إلى المستقبل، مستثمرين نقاط قوتهم التي لا يستطيع النيل منها عدو ولا صديق، وفي مقدمتها صدق التدين المستنير، وعمق التجرد واليقين بما عند الله، والخشية من حسابه على تضييع أجيال ألقت بزمامها إلى الحركات الإسلامية؛ سعيًا وراء العزة والخلاص. والله غالب على أمره.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة